في الثامن من يوليو 1986 حطت طائرة سيلفيو بيرلسكوني أرضا في استاد أرينا سيفيكا في ميلانو أمام 10000 مشجع للروسونيري ينتظرون الرئيس الجديد بعد شراءه النادي.
هطلت الأمطار وتوقفت الاحتفالية وعاد بيرلسكوني للمروحية مجددا وطار، ومعه ارتفع ميلان نحو عنان سماء الكرة الإيطالية والعالمية بعد سنوات من التخبط والاقتراب من الإفلاس.
واليوم 12 يونيو 2023 رحل بيرلسكوني عن عالمنا عن عمر يناهز 86 عاما بعد مسيرة حافلة في الكرة الإيطالية بدأت بميلان واستمرت 30 عاما ومستمرة لكن بقميص مونزا.
في أوائل الثمانينيات هبط ميلان للدرجة الثانية إثر فضحية “توتونيرو” الشهيرة بسبب التلاعب في نتائج المباريات والمراهنات، ورغم العودة السريعة لكن لم يقو ميلان على الاستمرار في الدوري فهبط وعاد من جديد.
رغم تماسك ميلان على مستوى النتائج لكن النادي كان يعاني ماديا ولم يستطع توفير رواتب اللاعبين تحت قيادة جوسيبي فارينا ومع الوصول لديسمبر من عام 1985 أعلن فارينا أنه سيبيع النادي وحينها ظهر اسم بيرلسكوني كالمنقذ.
من هو بيرلسكوني؟
ولد في ميلان عام 1936 وامتلك سفينة رحلات بحرية لكنه صنع اسمه الحقيقي في مجال العقارات حيث أنشئ مدينة ميلانو ديو نيو تاون .
ولفت الانتباه عن طريق شركة “فينيفست” التي ضخت الأموال في نهاية السبعينيات في شبكات التلفزيون.
كانت TeleMilano أول قناة تلفزيونية إيطالية خاصة، وتطورت لاحقا إلى Canale 5، أول محطة تلفزيونية وطنية خاصة تحت إمرة بيرلسكوني.
في الثمانينات حصل على حقوق بطولة موندياليتو “كأس العالم المصغرة” احتفالا بمرور 50 عاما على النسخة الأولى وخلالها كانت تظهر كل ربع ساعة إعلانات على شاشة التلفزيون، وفي عام 1984 أصيح يدير 3 قنوات محلية.
ثورة روسونيرو
بعد إعلان جوسيي فارينا رئيس ميلان في ديسمبر 1985 نيته بيع النادي ظهرت لافتات “كورفا سود” في المدرجات: “انقذنا من العار يا بيرلسكوني” و”تخلص من مجتمع اللصوص هذا”.
خلال الاجتماعات للحصول على ملكية النادي علم فريق بيرلسكوني أنه في غضون 3 سنوات تضاعفت ديون النادي 3 مرات وأن الشرطة المالية تحرص على التحقيق في عملية اختلاس أموال مشتبه بها.
قدم بيرلسكوني عرضا بـ 40 مليون ليرة وأصبح في 10 فبراير 1986 رئيس ميلان رقم 20 عبر تاريخه.
فرانكو باريزي قائد ميلان التاريخي يتذكر اللقاء الأول بين بيرلسكوني والجماهير قائلا: “كان هناك شعور حقيقي بأن هذا الرجل الذي جاء سيغير الأشياء حقا؛ سيكون قادرا على الارتقاء بنا إلى مستوى، ليجعلنا قادرين على المنافسة مرة أخرى، ليس فقط في إيطاليا ولكن في أوروبا أيضا“.
“لم يكن الأمر مجرد ركوب طائرة هليكوبتر، بل كان هناك شعور بوجود هذا التحول الهائل؛ الأشياء لن تكون هي نفسها مرة أخرى“.
استغل بيرلسكوني شبكته الإعلامية ومن خلالها اشترى 60 ألف شخصا تذاكر موسمية للفريق.
بيرلسكوني في مؤتمر صحفي بعد أيام قليلة من شراء النادي أعلن: “ميلان فريق، لكنه أيضا منتج للبيع؛ شيء تقدمه في السوق“.
عرف الإيطالي كيف تحويل كرة القدم لشبكة وإمبراطورية تدر الأموال من كل جهة عليه والاستفادة منها.
في الأشهر القليلة الأولى من رئاسته، بدأ برلسكوني في دفع مجلس المدينة لدعم خطط تجديد ملعب “سان سيرو”، وتم تقديم مفهوم “ولاء العملاء” حيث يقدم كل حاملي التذاكر الموسمية قاعدة بيانات مثالية لفرص التسويق التي تفيد شركاته سواء رياضيا أو حتى سياسيا في المستقبل.
وتم إحضار عالم نفس لتعليم الجميع في النادي طريقة الشركة، لتعزيز عقلية الشركة الجديدة.
لم تسر الأمور على ما يرام في أول موسم لبيرلسكوني حيث احتل الفريق المركز الخامس، ورحل العديد من الأسماء أبرزها مارك هاتلي.
الإنجليزي في حديثه إلى صحفي إيطالي في التسعينيات قال: “كان لدي لقاء فردي معه في ميلانو. كنت صغيرا، لكنني كنت ابن لاعب كرة قدم وكنت أعرف ما يكفي عن اللعبة لأفهم أن هذا الرجل المزعوم لكرة القدم يعرف القليل جدا. أراد أن يكون المدرب، كان يريد أن يفعل كل شيء“.
مارتن شوتس هو الآن وكيل أوروبي بارز يمثل لاعبين مثل كريستيان إريكسن، ولكنه كان حينها صحفيا يغطي بشكل أساسي النجوم الثلاثة الهولنديين في ميلان -ماركو فان باستن ورود خوليت وفرانك ريكارد- قال عن بيرلسكوني: “كان صاحب رؤية، وكان واضحا جدا ومقنعا بشأن التطورات التي ستأتي. كانت فلسفته أن كرة القدم رائعة“.
دوري السوبر الأوروبي
في نهاية الثمانينيات كان بيرلسكوني رفقة رامون ميندوزا رئيس ريال مدريد يفكران في مخطط “دوري التلفزيون الأوروبي” في عام 1988.
قال أليكس فيين لصحيفة “إندبندنت” الإنجليزية: “كان هذا الدوري الممتاز مبنيا على الجدارة والتقاليد والتلفزيون، وبالتالي كان دوريا لأسواق التلفزيون الكبيرة. أعتقد أنه كان يضم دوريا لحوالي 18 فريقا ومن المؤكد مشاركة فريقين من كل من إنجلترا وإيطاليا وإسبانيا، كانت هذه هي الخطة”.
وواصل فين عن بيرلسكوني: “أعتقد أنه ذهب إلى أبعد من ذلك. عندما يكون لدى شخص مثل بيرلسكوني خطة لدوري أوروبي ممتاز، حتى الاتحاد الأوروبي لكرة القدم كان عليه أن يجلس وينتبه. كان التهديد الأساسي هو أن رجل الأعمال هذا قد يكون لديه ما يكفي لفعل ما يقول”.
وأشار “من الناحية النظرية، فإن الانفصال ليس ملموسا، لأنهم بحاجة إلى يويفا وفيفا. لذلك ربما أدرك ذلك وربما كل ما كان يفعله هو وضع خطة للتأثير على نوع من التغيير الذي من شأنه أن يفيد ناديه وأعماله التجارية – وهو ما فعلته بالطبع”.
في النهاية ما أراده الإيطالي حدث وهو ما أوحى بنظام دوري أبطال أوروبا الحالي بنظامه الذي بدأ عام 1992 وموسيقته الخالدة.
ويمكن القول أنه كان البذرة الرئيسية لدوري السوبر الأوروبي المزعوم الذي انطلقت فكرته منذ 3 سنوات.
في أرض الملعب
في 1987 تعاقد بيرلسكوني مع مدرب قاد بارما الصاعد للدوري الإيطالي بعدما كان بائع أحذية وهو أريجو ساكي، قوبل تعيين ساكي بانتقادات من الصحافة في ميلانو. لكن كانت لدى ساكي أفكار مختلفة، ورد عليها: “لم أدرك مطلقا أنه لكي تصبح فارسا، يجب أن تكون حصانا أولا“.
الكل يعلم القصة ومن انضم ومن هم نجوم ميلان في تلك الحقبة، وكيف هيمن ميلان على لقب دوري أبطال أوروبا.
ثم تبعه فابيو كابيلو قائدا ميلان لثلاثية الدوري ولقب اللاهزيمة والفريق الذي لم يخسر في 58 مباراة متتالية كرقم قياسي في الدوريات الخمس الكبرى حتى يومنا هذا، والوصول لنهائي دوري أبطال أوروبا 3 مرات متتالية.
في أوائل التسعينيات، مع استمرار تأثر السياسة الإيطالية بسلسلة من فضائح الفساد، شكّل بيرلسكوني حزب “فورزا إيطاليا”، وملأ فراغا سياسيا، تماما كما فعل في عام 1986 عندما تولى رئاسة ميلان.
يتذكر باريزي قائلا: “لم أتحدث إليه كثيرا في التسعينياتـ، لم يكن رئيسا للنادي كثيرا، وكان مشغولا جدا بالسياسة“.
ثم جاء كارلو أنشيلوتي وجيل 2002-2007 والذي حقق كل شيء في كرة القدم.
عُرف رئيس الوزراء الإيطالي بتدخله الفني في عمل المدربين حرصا منه على النادي وكم من القصة التي خرجت للصحافة بشأن تدخلاته.
آخرها على سبيل المثال في صيف 2009: “ميلان مثل ريال مدريد: عليهم دائما الهجوم. من الآن فصاعدا، سنلعب باثنين من المهاجمين. يجب أن يكون أنشيلوتي أكثر ديناميكية عليه أن يفعل المزيد. إذا لم يكن كذلك، فلن يكون مدرب ميلان لفترة أطول“
كلمات الرئيس لم تدم كثيرا فرحل أنشيلوتي صوب تشيلسي في نفس الصيف..
باريزي أيضا دافع عن بيرلسكوني قائلا: “كان يتدخل أحيانا ويريد مناقشة التكتيكات، لكنه دائما ما كان يحترم أدوار الجميع -لم يتعد الهدف أبدا-“.
في 2012 كانت بداية سقوط ميلان، ليس كما تسلمه بيرلسكوني لكن تراجع خطوة تلو الأخرى حتى قرر بيرلسكوني بيع النادي للصينيين مقابل 750 مليون يورو.
وعقب الرحيل ودع بيرلسكوني جماهير ميلان قائلا: “أترك ميلان وأنا أشعر بالألم والحزن، لكن مع العلم أنه في كرة القدم الحديثة، لكي أكون في القمة في أوروبا والعالم، فأنت بحاجة إلى استثمارات وموارد مستمرة لا تستطيع عائلة واحدة بمفردها توفيرها بعد الآن“.
لسنوات، كانت هناك أسطورة بأنه مشجع لإنتر منذ الصغر لكن نفى بيرلسكوني كل شيء عام 2004 لصحيفة “توتوسبورت” الرياضية قائلا: “لم أكن أبدا من مشجعي إنتر، لا يمكنك تغيير دينك”.
“في أي مكان أذهب إليه هناك شخص يريد مصافحتي واحتضاني وتقبيلي، ويخبرني أنه مشجع لميلان ويشكرني على ميلان الذي بنيناه، هذا يحدث، ليس فقط داخل إيطاليا بل أيضا في الخارج، هناك العديد من مشجع ميلان وغير الطليان الذين يعرفونني ويصلون إليّ ويتقدمون بالتهئنة لي ويريدون احتضاني”.
“لم يصدق أحدا أننا سنحقق كل هذه الألقاب، أنا راض ووممتن بفضل انتصارات ميلان، أنا الرئيس الأكثر تتويجا بالألقاب في تاريخ كرة القدم”.
معه توج ميلان بلقب الدوري الإيطالي 8 مرات وبدوري الأبطال 5 مرات وحقق 28 لقبا مختلفا في 30 عاما.
رحل جسد بيرلسكوني لكن سيظل اسمه مرتبطا دائما وأبدا بـ ميلان لا ينفصل عنه مهما حدث.
المصدر في الجول